قصّة لوحة: الجدّ والجدّة زابليتال

“Muhammad at-Tayieb” al-Hyari
3 min readOct 29, 2019

--

حينما كانت الأسواق الماليّة تصبّ وافر استثماراتها في شركة WeWork الصّانعة للخسائر، اختارت كريستينا زابليتال، وهي كاتبة ومدرّبة في مجال الأعمال، الاستثمار في فنّي. وعندما ادّعى آدم نيومان، الرّئيس التّنفيذيّ لـ WeWork، أنّ هدفه لم يكن مجرّد كسب المال أو تأجير المساحات المكتبيّة، بل “تغيير العالم”، كان كلّ ما ادّعيته أنّ بوسعي رسم جدّي كريستينا الرّاحلين.. بشيء من الحبّ.

ليس صعباً تخيّلُ مستقبلٍ قريبٍ تحلّ فيه الآلاتُ محلّ المبدعين على تفاوت مهاراتهم، وهي -لا شكّ- ستبدأ بأولئك الّذين لا يبثّون نفحاتٍ من أرواحهم في أعمالهم. كان هذا الأمر في ذهني عندما عرضت خدماتي على كريستينا، تجاوزتُ مسرعاً حيّز الخبرة والقدرات لأبرزَ الجانب العاطفيّ، فأنا ابنُ هذي الأرض.

ما زلت أجهل المنطق الّذي تصوّر أنّ مهندساً أردنيّاً في الصّحراء السّعوديّة كان الأنسب لرسم قطعة فنّيّة رقميّة لعائلة أوروبّيّة. لكنّ الأمر -بلا شكّ- لم يكن ممكناً في غير زماننا هذا. هكذا، وبعد شيء من التّامّل، قرّرت الاستجابة لتلك الإشارة الكونيّة 😇.

مخاض عسير

بدأت القصّة بلوحة شخصيّة لابني الأكبر، تميم، رسمتُها باستخدام أقلام الكوبيك (copic markers) والرّصاص والحبر على ورق داكن (toned paper). أرادت كريستينا لوحة بذات الطّابع لتزيّن منزلَ العائلة كهديّة لوالدها في عيد ميلاده، لكنّ الفرق أنّها أرادت لوحة رقميّة بجودة عالية كي تطبعها بنفسها على قماش الكانفاس (canvas) وتضعها في إطار خشبيّ معتّق. أعجبتني الفكرة، وباشرت العمل.

طفل على درج قديم، لوحة للفنان محمد الطيب الحياري
تميم الحياري | أقلام كوبيك وحبر ورصاص على ورق داكن | الحياري.آرت

رُفضت مسودّاتي الأولى فظهر التّوتّر إذ تبخّرت ثلاثة أيّام. هنا ذكّرتني كريستينا بالمهلة القصيرة أمامنا، وبأنّها تريد رسماً رقميّاً لا يمكن تمييزه عن الرّسم اليدويّ، وبأنّها تريد أن تشعر بالدّفء والشّبه حين تنظر إلى وجهَيّ جدّيها. كان من الواضح أنّ سهامي، ورغم فراق القوس، لم تصب!

قرّرت البدء من جديد؛ ولهذا قمت بزيارة أحد الأصدقاء القدامى: تطبيق سكتش بوك برو (Sketchbook Pro) من أوتوديسك (Autodesk). يقدّم سكتش بوك أقلام كوبيك رقميّة تحاكي بامتياز تلك الّتي أستخدمها في الواقع. لكن مع التّرحيب الباهت من قبل التّطبيق، وبعض القيود التّقنيّة، وبأقلّ من 300 نقطة لكلّ إنش مربّع (DPI)، أدركتُ أنّ جودة العمل المطبوع لن ترضي عميلتي الّتي خرجت لتوّها من تجربة سيّئة مع فنّان مستقلّ آخر.

رغم ذلك، واصلتُ العمل.

مكره، لا بطل

مع تجاوز معضلة الأسلوب وقفت مكشوفاً حيال الأسئلة الأصعب؛ فالفنّ أمرٌ ذاتيّ -لا موضوعيّ-، ولا يمكن للفنّان بحال تخيّل الصّورة المطلوبة كما هي ذهن المشتري. لذلك تمثّلت وظيفتي في استخراج التّفاصيل من ذكريات كريستينا أكثر من الصّورة المرجعيّة القديمة التي شاركتني إيّاها. هنا، ومجهّزاً بكلّ ما تعلّمته عن التّعامل مع العملاء الغاضبين (بدأتُ عقديَ الثّاني في مجال الاتّصالات 😅)، حاولتُ قراءة التّوقعات الكامنة وراء كلّ كلمة قالتها، وتحويلها تبعاً إلى ضربات فرشاة رقميّة.. إلى الكثير من تلك الضّربات.

بعد وضع أساس اللوحة انتقلت من سكتش بوك إلى بروكرييت (Procreate)، رفيقي الأوّل للرّسم الرّقميّ الاحترافيّ (هذا ليس إعلاناً 😊). مع بروكرييت، رسمتُ الإجابات: عدّلت إعدادات الطّباعة، ملأت الفراغات، أتممت التّفاصيل بأقلام الرّصاص والحبر الرّقميّة، صحّحتُ القيم اللّونيّة، وانتزعتُ اعترافاً من كريستينا عن شعورها بالدّفء والشّبه في ملامح جدّيها. عندها اتّخذ العمل منعطفاً إيجابيّاً سرعان ما أفضى إلى الرّدّ النّهائيّ: “اللوحة رائعة. لقد قمتَ بعمل ممتاز.”

رسم رقمي لشخصين كبيرين في السن، لوحة قديمة لمنزل العائلة. من عمل الفنان محمد الطيب الحياري.
الجدّ والجدّة زابليتال | رسم رقمي | الحياري.آرت

بانتهاء الرّحلة صار لديّ قصّة أحكيها عن الأثر الإيجابيّ للاستياء، وقرّرت أن أرسم المزيد من الأعمال الرّقميّة بذات الأسلوب التّقليديّ، الأمر الّذي لم أكن لأجرّبه غير مكره، وكان عليّ أن أودّع جدّي كريستينا الجميلين.

مع كلّ ضربة فرشاة تعلّمت عن نفسي أكثر ممّا تعلّمت عن الفنّ. لن أدّعي أنّني “غيّرت العالم”، بل ركني الصّغير منه.

--

--